كـان من المعتاد أن أخلع ثوب الحرص والالتزام على المذاكرة و المواعيد الدراسية بعد الانتهاء من مدة السنة الدراسية , وأرتدي ثوب الفسح وأنطلق في سماء الإجازة مغردا كل يوم بنغمات عدة , لكنها نغمات لم تعط اللذة في العيش , كان غدا كأمس بأفعاله وروتينه وكابته وقلة معارفه , حاولت الاستفادة والتمتع من التلفاز لكن سرعان ما مللت منه مما جعلني أغمض عيني عنه .
حاولت وضع برامج أمشي عليها فربما تخلق لي اللذة والمتعة ولكن بدون جدوى , ظللت محصورا بين تلك الغيوم والأوجاع وظهر هذا علي في كثير من الأحيان , فقد لاحظت أمي طول صمتي , كنت تارة أصمت مفكرا وتارة أتسرع في أفعالي وما زال الوضع المؤلم قائما الى أن جائت عاصفة الانقاذ تبيد الألم والكآبة وتنقلني الى شاطئ المتعة والتغيير حيث أعجبني منظر النهر الجميل وأنا أتأمله في لحظة ما من أعلى قمة في بيتنا , أسرعت لألتقط من نسماته ما أزود به نشاطي وحركتي ولحسن حظي كانت من ضمن قوارب النيل قارب جميل يملكه أحد اقاربي , كان رجلا يقترب من الستينات ودائم الجلوس في مركبه لتوصيل الناس الى الشاطئ الأخر , انتهزت الفرصة وحاولت أن أقترب منه وأجالسه ففجأني بمبادرته في أن يجد جليسا مثلي يبادله حواديت النيل وبادرت أنا أيضا بسماع خرير الماء , وسحر كلماته الصادقة البريئة , كنا متحابان على هذا البساط اللامع على سطح الماء , كل يوم كان يحدثني في أمور عدة , فأحيانا يتبادل معي الكلام في أمور بيوتنا وأحيانا كثيرة في أخبار الزمن الماضي وما به من أحداث واختلاف عن عالمنا اليوم , كنت شغوفا بسماع مثل هذه الأخبار التي وضحت لي مدى الجد والاجتهاد والبساطة والحب , وكيف كان الجيران متعاونين يحبون الخير لكل الناس , وكيف كان الأصحاب المخلصين وكيف كان الصدق النابع من قلوب مخلصة لله لا تعرف الخيانة والمظاهر الكاذبة ,وحينما كانت كلمة الأب شيئا مقدسا , وحينما كانت طاعة ست الحبايب محرابا أقصده .
كـــان المركب هو محور اللقاء حيث جمع بين النقيضين , عجوزا بحكمته وخبراته ومعارفه , وشابا بشغفه وحب استطلاعه وطموحه , إلا أنني كنت أتعجب من حاله الميسور الذي لم يأتي يوما عليه إلا وهو سعيد راض غير مشتكي ولا متوجع ولهذا كنت شديد التعلق به ومساعدته في تجهيز المركب للزبائن , كنت أساعده وأنا سعيدا مغردا بنغمات أجمل مما سبق ,كان عقل هذا الرجل ككتاب مفتوح , فما أجمل العقول حينما لا ينبعث منها الأهداف الشريرة , وما أفضل الأيادي تلك الأيادي الشريفة التي لا تتقن فن النصب أو السطو .
مـــا زال منظر الطبيعة جميل في عيني , ومازالت حواديت النيل تجذبني وتحيطني بعالم من البراءة والجمال ومتعة تعلم كتاب الحياة , وما زال المركب هو شعاع الشمس الذي ينشر الصبح من جديد .
وفــي يــوم ما أعددنا المركب لاستقبال الزبائن بمناسبة العيد إذ بي أندهش وأتعجب مما رأيته فلقد كان مشهد غريب شد انتباهي لكنه كان مألوف عند هذا الرجل , فقد رأيت شخصيات مشهورة وقيادات عليا وأناس في أواخر عمرها تنزلق وتسرع الى مركبنا بغرض أخذهم في نزهة نيلية طوال اليوم , كنت أتامل وجوههم مليا وأرى سعادتهم وجمال أخلاقهم , كانت نسمات الهواء الجميل تنعشنا وهي تصطدم بكلماتنا التي تخرج من أفواهنا وكأنها جاءت لتأخذ سحر كلماتنا لتنقلها في جميع الأجواء .
انـتهى اليوم ولكن لم تنتهي متعتي ، كنت أقول في نفسي – ̋ يا لها من إجازة سعيدة ̋ – عقب الرجل البسيط بعد انقضاء اليوم بأن الإنسان محب للطبيعة من حوله ولا بد له أن يتأمل في خلق الله البديع.
يــابني إن هؤلاء الناس وغيرهم يأتون إلينا كثيرا بغرض التمتع وحب ممارسة هواية الصيد ، وبالإضافة الى كلامه فقد تعلمت أنا التواضع وشكر الله على نعمه .
هـنا نظرت للطبيعة بوجه مختلف وعرفت أن نور الطبيعة مستمد من روح الإنسان تجاهها , فالمطر الذي ينزل يغذي الأرض ويثمر النبات والشمس التي تأتي لتشق غياهب الظلام , كلها أمثلة جيدة من الطبيعة لتجديد الحياة وعدم اليأس وهنا شعرت بأن أضواء الطبيعة هي المدرسة المخلصة التي تفيض لي علما̋ آخر أستمد منه ملذات و عظات للحــيــاة .
تأليف :
م / محمد رجب زكي
مدرب لـغة انجليزية