تعد دومة الجندل مركزاً ثقافياً منذ القدم، حيث نُسب إلى دومة الجندل في هذه الفترة
(الجاهلية) ما ذكرته بعض الروايات عن دومة الجندل أنها نقلت الكتابة وتطورت فيها دون غيرها من بلاد العرب، ثم علمت أهل مكة كيف يكتبون، وذلك بأن بشر بن عبد الملك الكندي أخو الأكيدر صاحب دومة الجندل كان يأتي الحيرة فتعلم الخط العربي من أهلها، ثم أتى مكة فسأله سفيان بن أمية وأبو قيس أن يعلمهما الخط فعلمهما، ثم ذهب إلى الطائف فعلم نفراً من أهلها، ثم مضى إلى مصر فتعلم منه نفر من أهلها الكتابة العربية ثم انتقل إلى الشام.. وهكذا..
ودومة الجندول كما هو معروف تقع في منطقة الجوف التي تعتبر مستودعاً لكثير من الآثار التي تدهش زوارها، ومن تلك الآثار:
قلعة مارد
يعدّ هذا الموقع من أهم المعالم الأثرية في المنطقة وهو عبارة عن قلعة أثرية مهمة شيدت من الحجارة على مرتفع يطل على مدينة دومة الجندل ويعتقد أنها شيدت في القرن الأول أو الثالث الميلادي وشكلها بيضاوي وتتألف من سور فيه فتحات للمراقبة، ولها أربعة أبراج وفي داخل القلعة بئران عميقان محفورتان في الصخر. أما مبنى القلعة الرئيسي فيتألف من طابقين يضمان عدداً من الغرف للحراس والرماية والمراقبة، وقد زار الباحث القلعة وتجول في أرجائها واستمتع بالمناظر الخلاَّبة لمدينة دومة الجندل التي تكشفها تلك القلعة.
مسجد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
وبقلعة مارد مسجد، ينسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقال إنه بُني عام 17هـ أثناء عودة الخليفة بعد فتح بيت المقدس، ورمم المسجد مرات متعددة، وبني من الحجر المهذب والطين، وسقفه من الخشب والجريد وشكله مستطيل، ويتميز بوجود محراب ومنبر ومئذنة هرمية الشكل، ويحتوي المسجد أيضاً على مصلى النساء وبئر كانت تستخدم للشرب والوضوء، ومساحة المسجد نحو 600م2 تقريباً ويتميز بمئذنته الشهيرة التي لا زالت قائمة على وضعها السابق، وتعتبر مئذنة مسجد الخليفة عمر بن الخطاب من أقدم المآذن بالجزيرة العربية وقد بنيت بحجر الجندل فقط ويعطي شكلها منظراً رائعاً ولاسيما انتظام بناء تلك الصخور.
سوق دومة الجندل
نظراً لأن دومة الجندل تقع على منتصف الخط الواصل بين العقبة والبصرة تقريباً، بينها وبين دمشق خمس ليال وبين المدينة خمس عشرة ليلة لعدم استقامة الطريق بينهما فهي في موقع متوسط من بين أسواق الجزيرة العربية والأسواق الأخرى بالشام وغزة وفلسطين وفارس، لذا أصبحت دومة الجندل سوقاً عامرة فقد روي ابن سعد نقلاً عن بعض أهل الحيرة في سبب بنائها، أن أكيدر صاحبها وإخوته كانوا ينزلون دومة الحيرة، وكانوا يزورون أخوالهم من كلب فيتغربون عندهم، فإنهم لمعهم وقد خرجوا للصيد، إذ رفعت لهم مدينة متهدمة لم يبق إلا بعض حيطانها، كانت مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها وغرسوا فيها الزيتون وغيره وسموها دومة الجندل تفرقة بينها وبين دومة الحيرة.
وكان أكيدر- حاكمها- يبعث بمن يتعرض قوافل التجارة الذاهبة بين المدينة والشام ويظلم من يمر بهم من التجار الذين يحلبون الميرة والطعام ثم قوي شرهم حتى شاع أن في عزمهم الدنو من المدينة، وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستخلف على المدينة، وخرج في ألف من المسلمين يسير الليل ويكمن النهار ومعه دليل من بني عذرة حتى بلغوا دومة الجندل فتفرقوا وألقي الرعب في قلوبهم، وأخذ من نعمهم وشائهم ورجع ولم يلق كيداً. وقد ذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقن دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله ورجع إلى بلده وقد كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل دومة الجندل كتاباً جاء فيه: « (هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، ولأهل دومة. إن لنا الضاحية من الضَّحل، والبَور والمعَامي، وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور، ولا تُعدل سارحتكم ولا تعدّ فَارِدَتكم ولا يُحضر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء، ما شهد الله ومن حضر من المسلمين) ثم خلى سبيله فرجع إلى دومة الجندل.
وهذا الصلح تجاري بنتيجته لما ضمن من منافع للمسلمين، كما هو تجاري بسببه أيضاً، إذ لولا تعرض أهل دومة لمن يجتاز بقربهم من التجار ما اضطر الرسول إلى إرسال سراياه لتأمين الطرق وتأديب أهل العبث والفساد وارتد أهل دومة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وامتنع الأكيدر عن دفع الجزية التي كان يؤديها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه أبو بكر الصديق سرية بقيادة عياض بن غُنم. ونظراً لتحالف العديد من القبائل لم تتمكن هذه السرية من تحقيق النصر، فأمر أبو بكر الصديق خالد بن الوليد بالتوجه من العراق لتسلم القيادة، ونظراً لشهرة خالد الحربية وبسالته في الحروب فقد خشيه الأعداء وانقسموا إلى فريقين منهم من يريد القتال، ومنهم من يجنح إلى الصلح، وقد حاول الأكيدر بن عبد الملك إقناع القبائل بالتصالح بدلاً من الحرب، لتجنب الهزيمة المحققة على يد خالد بن الوليد، ولكن قبائل دومة ومن حالفهم أبوا الصلح، فهزمهم خالد وقتل رؤساءهم وفتح حصن مارد وقتل من تحصن به من المرتدين، ودخلت منذ ذلك التاريخ تحت لواء دولة الإسلام، وأصبح لهذه المنطقة دور مهم وإستراتيجي في حركة الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة في العراق والشام، لقد أتاح موقع المنطقة المتوسط ووقوعها على الطرق الرئيسة التي تربط العراق ببلاد الشام وباقي أنحاء الجزيرة العربية، بأن تكون دوماً في دائرة الاهتمام من قبل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لاستمرار الفتوحات الإسلامية ونشر العقيدة السمحة، وكانت القبائل العربية تنزل سوق دومة الجندل في أول يوم من ربيع الأول من كل عام للبيع والشراء رغم أنهم يلقون في سيرهم إليها تعباً كبيراً لوعورة الطريق والتعرّض للأخطار وفقدان الأمن ولا يحملهم على ذلك كله إلا ما تغريهم به هذه السوق من ربح وفائدة، كما أن سوق دومة الجندل يرتبط ببقية الأسواق العربية مثل سوق تيماء، سوق المشقر، وغيرها من الأسواق الكبرى للعرب.
هذه دومة الجندل مع بعض كنوزها الأثرية والتي يعتزّ بها الكاتب، كما يعتز بالتاريخ المشرّف لحصن مارد الذي أصبح عزيزاً، حيث لم يستطع الغزاة من الاستيلاء عليه، فكم من طامع في هذا الحصن خلال الحقب التاريخية أتى إليه ورجع دون تحقيق هدفه، ومن هؤلاء ملكة تدمر (زنوبيا) التي حاولت الاستيلاء على (قصر مارد بدومة الجندل) و(قصر الأبلق بتيماء) ولكنها فشلت وأطلقت كلمة لا يزال يرددها التاريخ: (تمرد مارد وعزّ الأبلق)، لقد كانت الأوقات التي قضاها الكاتب في الجوف ممتعة، شعر فيها بالألفة بل بالمآلف وأصبحت الجوف من الذكريات الملازمة للكاتب رغم البعد ويتمنى العودة.
د. تنيضب الفايدي
الجزيرة